* [وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ](28 القمر).
وبعدما علمنا أن الكلام في الآيات المباركة السابقة وحسب تسلسلها كان عن الأيمان والأيقان والخشوع والخضوع، إذن لابد أنه لا يخرج عن هذا السياق والنطاق الديني. وقد سبق وذكرنا أن من معاني كلمة (الْمَاءَ) التي ترد في آيات الذكر الحكيم بالاضافة الى معناها العام الشائع، هي ماء الآيات الإلهية وزلال السـور الزكية وفرات الرحمة الربانية التي تهبط مع نزول كل شريعة سماوية من سماء فضل الله لتسقي أشجار أرواح العباد حتى تثمر بفواكه الأعمال الصالحة. فمثلما يروي هذا الماء المادي كل ما هو حيّ من مخلوقات أرضية، حسب قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(30 الأنبياء)، كذلك هو الماء الرباني يسقي أرواح وعقول وقلوب كل من يقبل الى الله ويؤمن بأديانه المقدسة ليظهر من تراب أرض قلوبهم وعقولهم أزهار الحكمة وأثمار العلوم والمعارف، كما قال تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)(11 الأنفال)، فماء الأمطار لا يطهّر الناس ولا يذهب عنهم رجز الشيطان ولا يربط القلوب ولا يثبت الأقدام. بل هي مياه الأيمان ومياه الأديان وزلال رحمة رب العالمين وفرات النعم والبركات الإلهية، فهي التي تطهر الناس وتذهب عنهم رجز الشيطان وتربط قلوب المؤمنين وتثبت أقدامهم على صراط الله المستقيم. وبهذا فالآية الكريمة لا تتكلم عن هـذا المـاء الجاري فقط، بل تتكلم أيضاً عن زلال ماء الآيات وفرات الأيمان. فيكون من معاني الآية:ـ
أخبرهم يا صالح(ع) أن ماء الغيث الإلهي يُقسَّم بين أمم أصحاب الكتاب بنسب ومقادير متفاوتة محددة، كل أمة لها مقدار معين من ماء شريعتها، يبدأ في لحظة محددة وينتهي في يوم من الأيام. وحالما يحين موعد جفافه واحتضاره ينزل ماء شريعة سماوية جديدة على البشر، كما قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (34 الأعراف). فمهما حاولتم يا قوم ثمود، التشبث بماء دينكم وحافظتم عليه وزدتم في تعبدكم وغاليتم في أداء فروضه وواجباته، فلابد أن يأتي اليوم الذي تنسخ فيه شريعتكم وينتهي مفعولها ويجف ماء أيمانها فلا تستطيعون له وصولا.
* [فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ](29 القمر).
هذه الآية الكـريمة تشير الى صلب الموضوع وبيت القصيد والى أهم أسباب اعتراض الناس على رسلهم الكرام، وتفصح عن حقيقة مصدر مهم من مصادر الاعتراض والعناد والصد والنكران ومحاربة الله ورسله الكرام.
فكل أمة تلتجئ في ملماتها وخطبها الى رجال دينها وكبار أحبارها لتسألهم عن أمور دينها ودنياها إذا ما استعصى عليها أمرا من أمورها الروحية أو الاجتماعية، خاصة في قديم الزمان. ومن أهم المعضلات التي واجهت عباد الله، كانت مشكلة التمييز بين رجل الدين المؤمن الموقن داعي الحق الحقيقي، وبين مدّعي الدين المزيف القشري وساحر العقول. لذا كانوا بمجرد سماعهم بنبأ ظهور دين جديد وشمس رسول جديد أو نبيّ من الأنبياء، يهرع الأتباع والمريدون الى أولياء أمور دينهم طالبين المشورة والهداية باعتبارهم أصحاب الاختصاص في هذا المجال. وهنا يكون الخطأ الجلل والداهية الدهماء. فإذا كانت الشريعة ما زالت حيّة فاعلة، يكون الناس كمن يطلبون الهداية والاستنارة من أنوار نجوم الهدى وكواكب التقوى، كما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(73 الأنبياء). أما إذا كانت شريعتهم قد ماتت بنزول شريعة جديدة وهم غافلين عن ذلك، فيظن رجال الدين المفسدون، أنهم باقون على عهدهم، ومازالوا كما كانوا مصلحون. لكنه سبحانه وتعالى يوضح هذه النقطة الخطيرة ويبيّن لعبـاده كيف ينقلب شـأن هؤلاء من نور نهار الى ظلمة ليل، ومن هدي مبارك الى ضلالة مغضوب عليها، وكيف يستطيع العباد التمييز بين فريقي المصلحين والمفسدين، كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(11 البقرة)، لأن أتباعهم يكونون كمن يطلب الهداية ممن لا هداية له وعاجز عن مساعدة غيره، كما قال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)(3 الفرقان)، وكما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)(41 القصص).
ومع كل هذه المعضلات وهذه الفتن والامتحانات، قد يتساءل البعض: كيف يمكن للانسان البسيط أن يميز مكانه ودوره وطريقه ويعرف الحق من الباطل وينجو من نار غضب الله ويدخل جنة رحمته ونعيمه؟
لم يترك الله عباده لأنفسهم يحتارون في مثل هذه الأمور الخطيرة، إذا ما حان أجلها وأزف موعدها، فلقد ترك علامات واضحة وآثاراً مكشوفة لخلقه لمعرفة وتمييز مثل هذه الأزمان عند استعمال عقولهم والابتعاد عن التقليد الأعمى، كما قال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(117 هود)، ففي هذه الآية الكريمة، قانون إلهي عام يوضح ويكشف لجميع الخلق مهما تباينت درجات ذكائهم ومستويات عقولهم، أن بإمكانهم تمييز هذه العلامات الفارقة. فالآية الكريمة تعلن أن شرط الهلاك وبداية زمن النهاية، هو انقلاب أحوالهم وتفشي السيئات وانتشار الشرور بينهم، وعجز رجال الدين المصلحون على أداء أدوارهم الروحانية، كما أيد ذلك قوله تعالى (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(15 الإسراء)، فمن ثمارهم تعرفونهم، فلا تطرح شجرة الشوك أو الحسك تيناً أو عنباً.
لذلك فالآية الكريمة تقول أن قوم ثمود بعدما سمعوا بظهور شريعة صالح(ع) الجديدة بينهم، توجهوا الى كبير رجال دينهم الذي يصفه سبحانه وتعالى (بأشقاهم) ليسألونه عن حقيقة الأمر، وبما أنه كان في جوهره رجلاً غافلاً عن بشارات كتابه وجاهلا بجواهر أسراره، فقد تبينت قشرية علومه وسطحية مفاهيمه حالما أفتى بكذب دعوة النبي صالح(ع) وحكم ببطلان معتقدها وقيامه على تحذير الناس من مغبة الايمان بها، فهي حسب ظنه دعوة باطلة وطريق ضلالة وكفر، ونصحهم بعدم ترك دين آبائهم وأجدادهم الذي أجمعت الأمة على أحقيته وقدسيته وضرورة التشبث به.
* [فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ](30 القمر).
ويبدو أنه كان هناك صدى واسعاً لنصائح (أشقاها) بين قومه، فلقد تبعه غالبية مريديه وصدّقوا أقواله، لأن هذه الآية الكريمة تفصح ان عذاب الله قد نزل بقوم ثمود بعدما تبعوا (أشقاها) وكذبوا نبيّهم صالح(ع)، وبهـذا تكون أمتهم قد أجمعت على الخطأ والباطل، واتفقوا على الكفر والضلالة، وبالتالي كان ويكون هذا التصرف مغناطيس غضب الله ونقمته.
* [إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ](31 القمر).
فلقد كانت لحظة نطق صالح(ع) بعبارة: أني رسول من عند الله. هي لحظة البدء بنزول العذاب الإلهي وهي لحظة الاعلان عن انتهاء عمر شريعة قوم ثمود السابقة ونسخها، وهي الشرارة الروحانية التي تحولت فيما بعد الى نار مستعرة أكلت وجودهم. ومنذ تلك اللحظة، لم يتبق من عقيدتهم ولا من دينهم، ما ينفع الناس في حياتهم أو يصلح لبناء بيوت أيمانهم وقلاع تقواهم، فلقد دخلوا أول فترة الموت والاحتضار، وما هي إلا مدة محدودة مهما امتدت وطالت، حتى انتهى أمرهم وزال ذكرهم ومحيت عقيدتهم وحضارتهم وآلت الى فناء
